الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
(تَنْبِيهٌ) النَّظَرُ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَهُوَ جُلُّ الْمَقْصُودِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَالنَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِهَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه . قَالَ رضي الله عنه: لَا يَأْكُلُ مَعَ مُطَلَّقَتِهِ، هُوَ أَجْنَبِيٌّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا فَكَيْفَ يَأْكُلُ مَعَهَا يَنْظُرُ إلَى كَفِّهَا، لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِمَا مَعَ الْكَرَاهَةِ إذَا أَمِنَ الْفِتْنَةَ، وَكَانَ نَظَرُهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ انْتَهَى وَفِي الْفُرُوعِ: أَنَّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي رِوَايَةٌ ذَكَرَهَا شَيْخُنَا يَعْنِي الْإِمَامَ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه قَالَ وَالْمَذْهَبُ لَا، يَعْنِي لَا يُبَاحُ وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ: ظُفْرُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ عَنْ قَوْلِ الْقَاضِي إنَّهُ لَا يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُهُ خُصُوصًا الْجِيرَانَ، وَحُرِّمَ نَظَرٌ لِشَهْوَةٍ أَوْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ لِشَهْوَةٍ (أَيْ النَّظَرَ) كَفَرَ إجْمَاعًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى كُلِّ أَحَدٍ سِوَى الزَّوْجَيْنِ وَأَمَتِهِ غَيْرِ الْمُزَوَّجَةِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ، وَالْأَمْرَدُ وَاَلَّذِي لَهُ لِحْيَةٌ، وَأَمَةُ غَيْرِهِ، وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ، وَالْعَجُوزُ، وَالْبَرْزَةُ، وَالَذَى يَنْظُرُ إلَيْهَا عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَاَلَّتِي يَخْطُبُهَا . وَكَذَا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ إذَا كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ وَفِي الْغَايَةِ كَغَيْرِهَا وَحُرِّمَ نَظَرٌ لِدَابَّةٍ يَشْتَهِيهَا، وَخَلْوَةٌ بِهَا، كَقِرْدٍ تَشْتَهِيهِ الْمَرْأَةُ وَمَعْنَى الشَّهْوَةِ التَّلَذُّذُ بِالنَّظَرِ كَمَا فِي الْإِنْصَافِ
وَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (اغْتِيَابٌ) لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: غَابَهُ ذَكَرَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ السُّوءِ كَاغْتَابَهُ، وَالْغِيبَةُ فَعِلَةٌ مِنْهُ وَفِي النِّهَايَةِ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْغِيبَةِ وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ فِي غِيبَتِهِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ، فَإِذَا ذَكَرْته بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهُتُ وَالْبُهْتَانُ قَالَ تَعَالَى وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبَابَةَ رضي الله عنه " أَنَّهُ عَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَتَى عَلَى قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ فَقَالَ إنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَوَضَعَهَا عَلَى قَبْرِهِ وَقَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ مَا دَامَتْ هَذِهِ رَطْبَةً " . وَأَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ يَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبُهُتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ " . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَة الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ " وَرَوَى الْحَاكِمُ نَحْوَهُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَدْغَةُ الْخَبَالِ هِيَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ . كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مَرْفُوعًا وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ . وَالْخَبَالُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ .
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ " وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظِ " مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَقَالَ حَسَنٌ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ التَّوْبِيخِ بِلَفْظِ " مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ فِي التَّوْبِيخِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " مِنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ أَدْرَكَهُ إثْمُهُ فِي) الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " . وَرَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ بِلَفْظِ " مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نُصْرَتَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ . وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: لَا يَذْكُرُ فِي النَّاسِ مَا يَكْرَهُونَهُ إلَّا سَفَلَةٌ لَا دِينَ لَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ قَدْ لَا يَكُونُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً، كَأَنْ يَكُونَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِلَقَبِهِ كَالْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ . وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ، فَقَالَ رضي الله عنه: الْأَعْمَشُ إنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا، فَسَهَّلَ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ [ شُهِرَ . وَقَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ: يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّاوِي بِلَقَبِهِ وَصِفَتِهِ وَنَسَبِهِ الَّذِي يَكْرَهُهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَهُ لَا تَنْقِيصَهُ لِلْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ الْجَرْحُ لِلْحَاجَةِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَمْتَازُ الْجَرْحُ بِالْوُجُوبِ فَإِنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ . وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: الْهِجْرَانُ الْجَائِزُ هَجْرُ ذَوِيَ الْبِدَعِ، أَوْ مُجَاهِرٍ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ وَلَا يَقْدَمُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ أَوْ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا غِيبَةَ فِي هَذَيْنِ فِي ذِكْرِ حَالِهِمَا . قَالَ فِي الْفُصُولِ: لِيَحْذَرْ مِنْهُ أَوْ يَكْسِرْهُ عَنْ الْفِسْقِ، وَلَا يَقْصِدْ بِهِ الْإِزْرَاءَ عَلَى الْمَذْكُورِ وَالطَّعْنَ فِيهِ وَلَا فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمُخَاطَبَةِ . قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَخْطُبُ إلَيْهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ فَيَكُونُ رَجُلَ سُوءٍ فَيُخْبِرُهُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لِفَاطِمَةَ: مُعَاوِيَةُ عَائِلٌ، وَأَبُو جَهْمٍ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ، يَكُونُ غِيبَةٌ إنْ أَخْبَرَهُ؟ قَالَ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ يُخْبِرُهُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَلَكِنْ يَقُولُ مَا أَرْضَاهُ لَك وَنَحْوَ هَذَا أَحْسَنُ . وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ مَعْنَى الْغِيبَةِ يَعْنِي فِي النَّصِيحَةِ، قَالَ إذَا لَمْ تُرِدْ عَيْبَ الرَّجُلِ . وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْت أَحْمَدَ رضي الله عنه يَقُولُ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ . وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ فِيهِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: الْأَشْهَرُ عَنْهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْلِنِ وَغَيْرِهِ . وَظَاهِرُ الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ مَنْ جَازَ هَجْرُهُ جَازَتْ غِيبَتُهُ . قَالَ وَمُرَادُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنْ لَا فَلَا . وَقَدْ احْتَجَّ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَلَى غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ " بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ " .
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي التَّحْرِيرِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النُّصْحِ وَالتَّعْبِيرِ: اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ إنَّمَا يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالتَّنْقِيصِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَاصَّةٌ لِبَعْضِهِمْ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ . قَالَ وَقَدْ قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ هَذَا فِي كُتُبِهِمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ جَرْحِ الرُّوَاةِ وَالْغِيبَةِ، وَرَدُّوا عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَتَّسِعُ عِلْمُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّعْنِ فِي رُوَاةِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَنْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ، وَبَيْنَ تَبَيُّنِ خَطَأِ مَنْ أَخْطَأَ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ تَمَسَّكَ مِنْهُمَا بِمَا لَا يُتَمَسَّكُ بِهِ لِيَحْذَرْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا أَخْطَأَ بِهِ . قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا . قُلْت: وَقَدْ مَرَّ قَرِيبًا عَنْ صَاحِبِ الْآدَابِ أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ، لَكِنَّ مُرَادَ الْحَافِظِ بِالْجَوَازِ مَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ . قَالَ الْحَافِظُ: وَلِهَذَا تَجِدُ كُتُبَهُمْ الْمُصَنَّفَةَ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ التَّفْسِيرِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُمْتَلِئَةً مِنْ الْمُنَاظَرَاتِ وَرَدِّ أَقْوَالِ مَنْ تَضْعُفُ أَقْوَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا ادَّعِي أَنَّ فِيهِ طَعْنًا عَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَا ذَمًّا وَلَا تَنْقِيصًا . قَالَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ يَفْحُشُ فِي الْكَلَامِ يُسِيءُ الْأَدَبَ فِي الْعِبَارَةِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهِ إفْحَاشَهُ وَإِسَاءَتَهُ دُونَ أَصْلِ رَدِّهِ، قَالَ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُلَمَاءَ الدِّينِ كُلَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِالْعِلْمِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ شُذُوذِ شَيْءٍ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ مَرْتَبَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا ادَّعَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، فَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الْمُجْمَعِ عَلَى عِلْمِهِمْ وَفَضْلِهِمْ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ مِمَّنْ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَيُوصُونَ أَتْبَاعَهُمْ وَأَصْحَابَهُمْ بِقَبُولِ الْحَقِّ إذَا ظَهَرَ فِي غَيْرِ قَوْلِهِمْ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَمَّا خَطَبَ وَنَهَى عَنْ الْمُغَالَاةِ فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ وَرَدَّتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ . وَذَكَرَ مِنْ هَذَا أَشْيَاءَ نَفِيسَةً جِدًّا ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هَذَا يَعْنِي النَّظَرَ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَصْلَحَةِ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ مَا يَكْرَهُهُ طَبْعُهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ فَهُوَ حَسَنٌ .
وَتَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (نَمِيمَةٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّمِيمَةُ نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ نَمَّ الْحَدِيثَ يَنُمُّهُ نَمًّا فَهُوَ نَمَّامٌ، وَالِاسْمُ النَّمِيمَةُ . وَنَمَّ الْحَدِيثُ إذَا ظَهَرَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ . انْتَهَى . وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: النَّمُّ التَّوْرِيشُ وَالْإِغْرَاءُ، وَرَفْعُ الْحَدِيثِ إشَاعَةً وَإِفْسَادًا وَتَزْيِينُ الْكَلَامِ بِالْكَذِبِ، يَنِمُّ وَيَنُمُّ فَهُوَ نموم وَنَمَّامٌ وَمِنَمٌّ كَمِجَنٍّ . وَالنَّمِيمَةُ الِاسْمُ وَصَوْتُ الْكِتَابَةِ وَالْكِتَابَةُ وَوَسْوَاسُ هَمْسِ الْكَلَامِ . وَنَمَّ الْمِسْكُ سَطَعَ . وَالنَّمَّامُ نَبْتٌ طَيِّبٌ مُدِرٌّ مُخْرِجٌ لِلْجَنِينِ الْمَيِّتِ وَالدُّودِ وَيَقْتُلُ الْقَمْلَ وَخَاصِّيَّتُهُ النَّفْعُ مِنْ لَسْعِ الزَّنَابِيرِ شُرْبًا مِثْقَالًا بسكنجبين . انْتَهَى . وَيُسَمَّى النَّمَّامُ قَتَّاتًا . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَجُلٌ قَتَّاتٌ وَقَتُوتٌ وَقَتَّنِي نَمَّامٌ . أَوْ يَسْتَمِعُ أَحَادِيثَ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ سَوَاءٌ نَمَّهَا أَوْ لَمْ يَنِمَّهَا . وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: لَامَ الْعَذُولَ وَفِي الْحَشَا لَوْعَاتِي وَهُوَ الظَّلُومُ لَنَا الْغَشُومُ الْعَاتِي يَا وَيْحَهُ مَا يَعْذُرُ الصَّبَّ الَّذِي يَبْكِي مَدَى الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ أَوْ مَا يَرِقُّ عَلَى رَقِيقٍ فِي الْهَوَى قَدْ صَارَمَ الْأَفْرَاحَ وَاللَّذَّاتِ عَافَ الْمَنَامَ وَقَامَ فِي غَسَقِ الدُّجَى يَشْكُو الْغَرَامَ لِعَالِمِ الذَّرَّاتِ أَهْوَى بِهِ دَاءُ الْهَوَى فَتَرَاهُ فِي حَالَاتِهِ مُتَغَيِّرَ الْحَالَاتِ أَحْفَى هَوَاهُ عَنْ الْأَنَامِ لَعَلَّهُ يَخْفَى فَبَانَ لِدَمْعِهِ الْقَتَّاتُ يَعْنِي النَّمَّامَ . وَسَمَّى الدَّمْعَ نَمَّامًا لِأَنَّهُ يَنِمُّ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُظْهِرُ مِنْ حاله مَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ . أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ " وَفِي رِوَايَةٍ " قَتَّاتٌ " قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ: الْقَتَّاتُ وَالنَّمَّامُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَقِيلَ النَّمَّامُ الَّذِي يَكُونُ مَعَ جَمَاعَةٍ يَتَحَدَّثُونَ حَدِيثًا فَيَنِمُّ عَلَيْهِمْ، وَالْقَتَّاتُ الَّذِي يَتَسَمَّعُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ثُمَّ يَنِمُّ . انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِيهِ " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ " هُوَ النَّمَّامُ، يُقَالُ قَتَّ الْحَدِيثَ يَقُتُّهُ إذَا زَوَّرَهُ وَهَيَّأَهُ وَسَوَّاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَزَادَ: وَالْعَسَّاسُ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الْأَخْبَارِ ثُمَّ يَنُمُّهَا . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ " الْحَدِيثَ . وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ " مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ فَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ، قَالَ فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ وَقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ فَجَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ لِئَلَّا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ، فَلَمَّا مَرَّ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ إذَا بِقَبْرَيْنِ قَدْ دَفَنُوا فِيهِمَا رَجُلَيْنِ، قَالَ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَنْ دَفَنْتُمْ هَهُنَا الْيَوْمَ؟ قَالُوا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ . وَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلَى الْقَبْرِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ لِيُخَفِّفْنَ عَنْهُمَا . قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَتَّى مَتَى هُمَا يُعَذَّبَانِ؟ قَالَ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَلَوْلَا تَمَزُّعُ قُلُوبِكُمْ وَتَزَيُّدُكُمْ فِي الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ " . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا " النَّمِيمَةُ وَالشَّتِيمَةُ وَالْحَمِيَّةُ فِي النَّارِ " وَفِي لَفْظٍ " أَنَّ النَّمِيمَةَ وَالْحِقْدَ فِي النَّارِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ " . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ " كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرَرْنَا عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَامَ فَقُمْنَا مَعَهُ، فَجَعَلَ لَوْنَهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَكُمْ قَمِيصُهُ، فَقُلْنَا مَا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ فَقُلْنَا وَمَا ذَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ هَذَانِ رَجُلَانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ، قُلْنَا فِيمَ ذَاكَ؟ قَالَ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ . فَدَعَا بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرَائِدِ النَّخْلِ فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً . قُلْنَا وَهَلْ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَا رَطْبَتَيْنِ " . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُهُ " فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ " أَيْ هَيِّنٍ عِنْدَهُمَا وَفِي ظَنِّهِمَا لَا أَنَّهُ هَيِّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ " قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . انْتَهَى . أَوْ يُقَالُ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ هَيِّنٌ تَرْكُهُ وَالتَّحَرُّزُ مِنْهُ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحِ: قَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، يَمْشِي أَحَدُهُمَا بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَتْرُكُ الْآخَرُ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ الْبَوْلِ، فَهَذَا تَرَكَ الطَّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ . وَذَلِكَ ارْتَكَبَ السَّبَبَ الْمُوقِعَ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا . قَالَ وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ أَعْظَمُ عَذَابًا . كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ الْبَوْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ الَّتِي الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ الْبَوْلِ بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا وَشُرُوطِهَا فَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا . انْتَهَى . وَقَدْ أَبْدَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ نُكْتَةَ ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّا يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ عَلَى صَفَحَاتِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقْضِي فِيهِ الْحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ الصَّلَاةُ وَالدِّمَاءُ . وَالطَّهَارَةُ أَقْوَى شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَتُهَا، فَإِذَا لَمْ يَتَنَزَّهْ مِنْ الْبَوْلِ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْ مِنْهُ فَقَدْ فَرَّطَ فِي شَرْطِ الصَّلَاةِ . وَسَبَبُ وُقُوعِ النَّاسِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِرَاقَتِهَا بِغَيْرِ حَقِّ الْعَدَاوَةُ، وَمُقَدِّمَتُهَا النَّمِيمَةُ، فَإِنَّهَا سَبَبُ الْعَدَاوَةِ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ مُقَدِّمَةُ عَذَابِ النَّارِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُقَدِّمَاتِ أَوَّلًا . فَانْظُرْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ وَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ مَرْفُوعًا " لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ . ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ " وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا " تَجِدُونَ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ " وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيِّ " أَنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ " . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَهَذَا لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَالَ تَعَالَى وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ مُوسَى صلوات الله عليه: يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي مَا لَيْسَ فِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا مُوسَى لَمْ أَجْعَلْ ذَلِكَ لِنَفْسِي فَكَيْفَ لَك . وَقَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام: لَا يُحْزِنُك قَوْلُ النَّاسِ فِيك، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ حَسَنَةً لَمْ تَعْمَلْهَا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ سَيِّئَةً عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهَا . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ شِعْرًا: لِي حِيلَةٌ فِيمَنْ يَنُمُّ وَلَيْسَ فِي الْكَذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كَانَ يَخْلُقُ مَا يَقُو لُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ
|